تفسير سورة آل عمران ــ الدرس ( 39 )

من الآية ( 86) إلى الآية (  97)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

www.albahre.com

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 86 ) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 87 ) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 88 ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 89 ) } آل عمران: ٨٦ - ٨٩

{ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ   } [آل عمران:86]

استفهام ومنه تعجب { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ } وأيضا يتضمن النفي

{ كَيْفَ يَهْدِي } يعني لا يهدي الله

{ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ } أي بعد أن شهدوا أن الرسول حق ، وهذا شامل لكل من ارتد عن دين الإسلام

{ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ } بما أتى به من الدلائل والآيات ومن أعظم ما يكون القرآن ، ومن ثم جمع بينهما   { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ } فلابد في الدين من الإتيان بما يجب من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله

{ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ } ولذا قال بعدها { وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ }

ذكِّر هنا الفعل لم يقل وجاءتهم ، { وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي جاءهم جمع البينات فالتذكير هنا باعتبار كلمة جمع

{ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } قامت عليهم الحجة { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } فمن هذه حالته فهو ظالم ، إذ إن البينات وضحت له وشهد شهادة التوحيد وشهادة الرسالة ومع ذلك ما أعرض إلا لأنه ظالم وأعظم الظلم هو الكفر بالله عز وجل

{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن الإنسان مع أن الآية تدل على أن ما فعلوه كفر وأعظم الظلم هو الكفر بالله إلا أن الإنسان يحذر من الظلم بجميع أنواعه

ولذا قال { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وإذا انتفت هداية الله للظالم فكيف يصل إلى الخير ؟

ولذا : ماذا قال عز وجل عن ذلك الذي حاج إبراهيم

{ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }

{ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ  }

{ أُولَئِكَ } من ذكر ممن كفر بآيات الله وكفر بشهادة رسول الله وجاءته البينات { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ } واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله

{ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ  }

وهذا مر معنا في سورة البقرة مما يدل على أن هؤلاء أصحاب علم وضلوا وأضلوا قال عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ١٥٩ }

وقال بعدها { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ١٦١ }

{ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ  }

وهذا يفهم منه كما مر معنا ما يدل له قوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه ( معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء )

فمن أظهر العلم فإن المخلوقات تستغفر له ومن كتم العلم فإن المخلوقات تلعنه 

{ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ  }

{ خَالِدِينَ فِيهَا } أي في اللعنة أو في النار لأن اللعنة مؤدية بالإنسان إلى النار فلا تعارض بين القولين

{ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } من حيث الزمن ومن حيث  الكيفية { وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ  } أي لا يملهون ولا يؤخرون ، ومر معنا ذلك في سورة البقرة

{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ  }

{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } انظر إلى رحمة الله فمن تاب لكن مع التوبة لابد من الإصلاح لأن ما قام به ضلل به غيره

ومن ثم فإن عليه أن يتبرأ مما أتى به من الضلال وأن يبين وأن يصلح حاله وأن يصلح من حال الناس بالتبيين

ولذلك في سورة البقرة { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ١٦٠ }

{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ  }

إثبات اسمين من أسمائه عز وجل الغفور والرحيم

ومر معنا هذا الاسم والحديث عنه مفصلا في سورة البقرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ( 90 )} آل عمران: ٩٠

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } هذا صنف آخر ممن كفر

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ }

قال هنا { لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ }

لو قيل : ألا تقبل التوبة ممن عظم ذنبه ؟ نعم تقبل

لكن هنا قال { لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } أي إذا عاينوا الموت فمن عاين الموت فإن توبته لا تقبل ، ولذلك ثبت عنه قوله عليه الصلاة والسلام ( إن الله يقبل توبة  العبد ما لم يغرغر ) فإذا بلغت الروح الحلقوم هنا لا تقبل لكن قبل ذلك تقبل منه

ولذلك : انظر ماذا قال هنا { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } الاسم الموصول يأتي في خبره أحيانا بحرف الفاء تشبيها باسم الشرط وأحيانا لا ، ومر معنا ذلك في سورة البقرة

{ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ } أهل الضلال : ومن ضل هم هؤلاء باعتبار ماذا ؟

باعتبار أنهم ذاقوا طعم الإيمان ومن ذاق طعم الإيمان فكما قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه في الصحيحين ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار )

فدل هذا على ماذا ؟على أن هؤلاء تركوا دين الله بعد أن ذاقوا هذا الإيمان

وهذا يدل على أن الضلال قد ترسخ فيهم

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ  }

ولذا قال عز وجل في سورة النساء :

{ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ١٣٧ } باعتبار أنهم ماتوا على الكفر

ولذا قال تعالى { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 91 ) } آل عمران: ٩١

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا }

انظر : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ } قال هنا    { فَلَنْ } أتى بالفاء بعد اسم الموصول ، ويؤتى بها في خبر اسم الموصول باعتبار أن اسم الموصول يشبه اسم الشرط

قوله تعالى في الآية السابقة { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ }

لم يقل فلن باعتبار أنهم لم يموتوا بعد بخلاف هذه الآية

ففي الآية السابقة { لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } باعتبار أنهم لو تابوا قبل حضور الموت فإن توبتهم مقبولة

لكن هنا ماذا قال  { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ }  رتب بالحرف باعتبار ماذا ؟ باعتبار أنهم بعد أن ماتوا لا يمكن أن يعودوا

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ } وذلك لم ؟ لأنه كما قال عز وجل { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ٨٨ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ٨٩ }

{ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } عذاب مؤلم وهو عذاب النار

{ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } بمعنى : أنه ليس هناك أحد ينصرهم وليس هناك أحد يدفع عنهم هذا العذاب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ   } آل عمران: ٩٢

 { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }

{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ } { الْبِرَّ } قال بعضهم : الجنة ، وقال بعضهم : في ذكر بعض الأعمال الصالحة

ولكن البر اسم يجمع خصال الخير التي تؤدي إلى الجنة وتفسيره في سورة البقرة { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } إلى ما ذكره عز وجل في الآية ، وسبق تفسيرها

{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن العبد متى ما أنفق الذي يحبه دل هذا على أنه ما أنفق هذا المال الذي هو محبوب للنفس{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ }أي لحب المال{ لَشَدِيدٌ }  { وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } ما أنفقه إلا لأنه يحب الله أعظم

{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }

من ثم فإن بعض  الصحابة لما سمع بهذه الآية كأبي طلحة قال : ( إن أحب ما لدي يا رسول الله بيرحاء ) وهي حديقة بستان ، فتصدق بها رضي الله عنه

{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }

وأتت هذه الاية بعد الآية السابقة من باب بيان أن من أراد أن ينفعه ماله في الآخرة قال في الآية السابقة { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ }

فمن أراد أن ينفعه ماله في الآخرة فلينفقه فيما يحبه الله

{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ } أي شيء وما هنا شرطية ، فالجواب : { فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

وقلت لكم قال هنا { فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } لم يذكر حكما ولم يذكر ثوابا فدل هذا على أنه عز وجل ذكر اسم العليم من باب أنه عز وجل عالم بنفقتكم ومن أنفق ابتغاء وجه الله فإن له الجزاء من عند الله والله لا يضيع أجر من أحسن عملا

قال هنا { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ }

وهذه الآية ليس بها نسخ وإنما هي في صدقة التطوع

وأيضا متعين على الإنسان إذا أخرج الزكاة الواجبة أن يخرج الطيب

قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } كما مر معنا في تفسيرها

ولذلك لا يجوز للإنسان في الصدقة الواجبة أن يخرج الرديء إلا إذا كان كل ما لديه رديئا فلا يكلف الله إلا ما آتاها ، أو كان بعضه رديئا وبعضه طيبا فيجب أن يخرج من الكل ، لا يظلم ولا يظلم

ومن ثم : فقوله عز وجل { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } قال في  الجملة السابقة { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } أعظم درجات ما يكون من العمل الصالح أن تنفق الطيب لكن لو أن الإنسان أنفق شيئا لا ترتضيه نفسه ولا يحبه وغيره يستفيد منه يؤجر ، فلا تحرم نفسك أن تخرج مثلا طعاما أو ما شابه ذلك لا ترغبه نفسك فلا حرج في ذلك بدل أن يرمى يعطى من يستفيد منه

ولذلك عمم هنا قال { وَمَا تُنْفِقُوا } لأنه قد يظن البعض أن النفقة لا تقبل إلا من الشيء الطيب الذي تحبه النفس

قال { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 93 ) } آل عمران: ٩٣

{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ }

{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا } أي حلالا { لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ } وهو يعقوب { عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ } لأن يعقوب قبل اليهود قبل نزول التوراة

{ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } لم ؟ لأنهم لما رأوا النبي عليه الصلاة والسلام لما رأت اليهود النبي عليه الصلاة والسلام يأكل لحم الإبل ويشرب ألبانها قالوا تزعم أنك على ملة إبراهيم وإبراهيم ما كان يأكل لحوم الإبل وما كان يشرب ألبانها فرد الله عز وجل عليهم

{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ }

وإسرائيل قبله من ؟ إبراهيم عليه السلام وبعده التوراة

فمن أين لكم هذا القول ؟

فإذن : يعقوب عليه السلام منع نفسه من أكل لحوم الإبل ومن شرب ألبانها لأنه كما جاءت بذلك الأحاديث ويقوي بعضها بعضا من أنه أصيب بمرض وهو عرق النسا وهو عرق يكون في القدم عرق النسا لشدة ألمه قد يصيب الإنسان قد يصيبه شيء من النسيان، فقال : ( لئن شفاني الله لأدعن أحب ما لدي من الطعام والشراب ، فشفاه الله

فقال عز وجل كل الطعام { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ }

وأما ما ورد من أن يعقوب نذر أن يذبح أحد أولاده وأنه كان في سفر وأتى ملك وضربه في عقبه فأصابه هذا الألم وهي قصة طويلة فلا أعلم لها حديثا صحيحا عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وإنما الوارد ما ذكر لكم هنا

إذن :  فامتنع يعقوب من ذلك ، وهذا جائز في شريعته ، ولذلك الله عز وجل قال للنبي عليه الصلاة والسلام { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١ }

{ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } فهذا التحريم ليس موجودا في التوراة { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما زعمتم من أن إبراهيم حرم على نفسه لحوم الإبل وألبان الإبل

{ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} لكنهم أصحاب افتراء

{ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 94 )  } آل عمران: ٩٤

{ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } من بعد ما بين هذا البيان  {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }  ومن كان ظالما فإنه يكون ممن ضل

{ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }  وقد بين عز وجل أن صاحب الافتراء أنه في خيبة { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى }

{ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } إذن هم افتروا على الله الكذب وقالوا على الله بلا علم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 95 )} آل عمران: ٩٥

{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } قل يا محمد صدق الله في كل قول قاله فقوله صدق قال تعالى { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا }

{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } فيما أخبر به جل وعلا في الكتب السابقة وفي هذا القرآن

{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } ومن ثم بعض من الناس إذا فرغ من قراءة القرآن قال صدق الله العظيم ، وهذه لم ترد عن النبي عليه الصلاة والسلام

صحيح : صدق الله ، نعم ، صدق الله ، لكن قيد ذلك بعد الفراغ من قراءة القرآن هذا ليس بثابت ، وإنما الثابت أن يقول العبد إذا قرئ عليه القرآن كما صنع النبي عليه الصلاة والسلام لما قال لابن مسعود رضي الله عنه   ( اقرأ علي قال أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ ) فقرأ عليه سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ٤١ }  ، قال : ( حسبك )

فمن قرأ عليه شخص بعض الآيات وأراد أن يوقفه فليقل حسبك

{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } صدق الله فيما أخبر به من أن تحريم الإبل وشرب ألبانها إنما وقع من يعقوب عليه السلام

{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } في كل أقواله { فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

لأنهم قالوا كما مر معنا في سورة البقرة { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا }

{ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا }

في هذه السورة  { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٦٧ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ٦٨ }

{ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ( 96 ) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( 97 )  } آل عمران: ٩٦ - ٩٧

{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ    }

{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ }  جاء ذكر البيت لأن من بناه من ؟

إبراهيم عليه السلام ومر معنا من أن الصحيح من أن من بناه هو إبراهيم عليه السلام ، ومر معنا ذلك مفصلا وبيان الآثار والأدلة عند قوله عز وجل { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا }

وعند قوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } مفصلا الحديث هناك

{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } أي مكانا يتعبد لله عز وجل فيه

ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام ( لما سئل ما هو أول بيت وضع للناس ؟ فقال عليه الصلاة والسلام المسجد الحرام ، قيل ثم ماذا ؟ قال المسجد الأقصى ، قيل كم بينهما ؟ قال أربعون سنة )

{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } بكة : أي مكة قيل : إن كلمة بكة مع مكة يتناوب الحرفان وسميت مكة ببكة قيل : لأن الناس يتباكون فيها يعني يزدحمون ، وقيل لأنها تبك أعناق الجبابرة كأبرهة لما أراد أن يهدمها ، وقيل لأن الناس يبكون عندها ، وقيل غير ذلك

{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا }

{ مُبَارَكًا } ذلكم البيت البيت الحرام مبارك مبارك باعتبار ما جاء به الشرع لا باعتبار ما أتت به البدع وأهل البدع وأتت به أهواء الناس

مبارك من حيث إن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة

من حيث ما ذكر من عبادات تكفر الذنوب ويكون للعبد الحسنات

أما البركة التي يفعلها بعض الناس طلب التبرك من التمسح بالمقام أو بالجدران أو بالحيطان أو ما شابه ذلك فإن مثل هذا من البدع أو من التبرك المذموم حتى التعلق بأستار الكعبة والتمسح بأستار الكعبة فمثل هذا أيضا من البدع

وإنما ورد مسح أو تقبيل الحجر الأسود ومسح الركن اليماني ، ولم يأت دليل التعلق بأستار الكعبة إلا فيما يسمى بالملتزم وهو ما بين الحجر الأسود والباب مكان محدود وصغير هذا ورد عن الصحابة وورد حديث مرفوع لعله يتقوى بهذا

هذا هو الوارد بمعنى أن الإنسان يضع صدره ووجهه ويدعو الله في الملتزم ، أما ما عدا ذلك من التعلق بأستار الكعبة فليس هذا واردا بل من البدع والمخالفات

{ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ  } ، سبحان الله !

كيف يكون البيت هدى للعالمين ؟

العالم :هم كل ما سوء الله  ، لكن المقصود هنا : البشر

{ وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ  }  باعتبار ماذا  ؟ باعتبار أن الكفار حتى الكفار إذا رأوا اجتماع المسلمين في هذا المكان ، وهذا المكان يقبل الناس عليه إقبالا والناس يأتون في الحج في أوقات محددة ، من نظر نظرة تعقل وتأمل فإن في مثل هذا هداية له حيث يهتدي إلى الدين إلى غير ذلك من الهداية التي جعلها الله في هذا البيت لمن أمعن النظر في ذلك

{ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ  }

{ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ }

{ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } دلائل واضحة  { بَيِّنَاتٌ } مما يتعلق بالمشاعر ، مما يتعلق بمقام إبراهيم ، مما يتعلق بالكعبة ، كل ذلك آيات بينات واضحات لمن له عقل { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ٣٧ }

{ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ }

مقام إبراهيم : مر معنا تفصيل ذلك في قوله عز وجل في سورة البقرة    { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }

هل المقصود هو المقام المعروف أو أن كل ما في مكة يعتبر مقاما ؟

مر الحديث عن ذلك

{ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا }

{ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا } فهو آمن من دخله حتى الطيور آمنة فالطيور تكون آمنة ، ولذلك كانوا في الجاهلية إذا أتى الإنسان القاتل فرأى الولد الذي قتل أبوه رأى قاتله فإنه لا يعتدي عليه

{ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا } ويتضمن أيضا هو خبر { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا } باعتبار ما كانت قريش تصنعه ، إذا  دخل أحد في البيت فإنه لا يعتدى عليه

وأيضا يتضمن الأمر ، ولذلك الزنديق الباطني الطاغية والذي أتى إلى مكة  وقتل الحجاج في القرون السابقة قال لهم مشككا لهم أين دينهم ؟ وأين رسولكم الذي يقول عن ربه { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا }

فهنا { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا } خبر يتضمن الأمر أي أمِّنُوا

{ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا } يعني أمِّنوا من دخل فيه ، فهو أمر للناس بأن يجعلوه ذا أمن

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا }

{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا }

{ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا } حتى إن العلماء اختلفوا فيمن فعل ذنبا ثم دخل  مع أنهم قالوا من فعل حدا في مكة فإنه يقام عليه لكن لو فعله خارج مكة ثم دخل اختلفوا في ذلك ، فدل هذا على ماذا ؟

وبيان ذلك في الفقه ، لكن دل هذا على ماذا ؟ دل على حرمة هذا البلد

{ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا } وهم يذكرون ولا أدري هل هو وقع قدرا لم أر ذلك بعيني ولم أر دليلا على ذلك قالوا إن الطيور التي في الحرم قالوا إنها لا تطير فوق الكعبة ولا تطير على المقام ، فإن وجد دليل ولم أر دليلا صحيحا في مثل هذا

أيضا : من حيث النظر لم أر ذلك لم أتمعن يعني لم أتمعن هذا الأمر

فإن كان فمقاله ليس عليه دليل لا من حيث الواقع ولا من حيث الشرع والله أعلم بذلك

{ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا } ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام ماذا قال ؟

 قال ( ولا ينفر صيده )

كما أنه لا يصاد فيه الصيد لا ينفر لا تأتي إلى الطيور التي فيه من الحمام وإذا بك تنفرها بمعنى تزعجها حتى تطير

( ولا ينفر صيده ) مما يدل على عظم هذا المكان

{ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا } وأما ما يقال من أن الحمام الموجود فيه من أنها من نسل الحمامتين اللتين على الغار وأن ذلك الحمام له صفات معينة وما شابه ذلك فهذا لا دليل عليه ولا يصح في ذلك خبر فيما نعلم

{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } انظر { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ } جميع الناس من باب ماذا ؟ ما تقدم ذكر لمن ؟ لأهل الكتاب وأهل الكتاب يعظمون المسجد الأقصى ، ولاشك أن المسجد الأقصى له تعظيم من حيث الشرع ويعظمونه على مكة ، فقال عز وجل { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا } ثم بين ما له من الصفات

ثم بعد ذلك أمر الجميع { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا }

وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن الحج فرض في السنة التاسعة لأن وفد نصارى نجران أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام في العام التاسع لكنه عليه الصلاة والسلام ما حج إلا في السنة العاشرة ؛ لأمور ذكرتها في غير هذا الموطن من بينها : أن البيت يتطهر من أدران الشرك ولذا ( أرسل في السنة التاسعة ألا يحج بعد هذا العام مشرك وألا يطوف بالبيت عريان ) وكان يستقبل الوفود في العام التاسع إلى غير ذلك من الأحكام التي ذكرناها فيما يتعلق بالحج في مسائل الحج

{ وَلِلَّهِ } كلمة اللام تدل على الوجود { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ }

و{ عَلَى } تدل على الوجوب

{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ }

{ مَنِ } هنا بدل من { النَّاسِ } ، { مَنِ } بدل بعض كل من كل

{ النَّاسِ } كل { مَنِ } بدل بعض من كل

بمعنى أن هذا الوجوب ليس على الجميع إلا من توفرت فيه هذه الصفات

{ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } من لم يستطع فلا يلزمه الحد

وإطلاق الآية { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } يدل على أنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة

وقد بين عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم ( إن الله فرض عليكم الحج فحجوا ، قيل يا رسول الله أكل عام ؟ قال لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم )

{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا }

من استطاع أن يصل إلى البيت فيجب عليه الحج

وقد جاء حديث فسر النبي عليه الصلاة والسلام هذا السبيل من استطاع إليه سبيلا ( الزاد والراحلة ) من لديه طعام وراحلة يصل إلى البيت

وهذا الحديث فيه مقال كثير ولو صح مع أن به ضعفا ولو صح فإنه لا يقيد بالطعام وبالراحلة

بل نقول : إنه يجب الحج على من استطاع ببدنه وبماله ، فإن عجز بماله وببدنه سقط عنه ، وإن عجز ببدنه عجزا مستمرا وقدر بماله ينيب غيره وإن عجز بماله واستطاع ببدنه فالصحيح أنه يلزمه

وذلك : كأهل مكة من عجز بماله منهم واستطاع ببدنه بحيث يصل لقربه ويتنقل هنا يلزمه الحج ، ومن ثم نقول هذا الحديث لو صح ليس على عمومه وإطلاقه

{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

قال { وَمَنْ كَفَرَ } وهذا دليل لمن قال إن من ترك الحج من غير جحد بوجوبه لأن من جحد وجوبه كفر لأنه كذب الله وكذب النبي عليه الصلاة والسلام وكذب إجماع الأمة لكنه لو تركه تهاونا منه مع قدرته ببدنه وبماله قالوا بعض العلماء يكفر كفرا يخرجه عن ملة الإسلام

والصحيح أنه لا يكفر

ولذلك حديث عبد الله بن شقيق كما عند الترمذي كما ثبت عنه قال ( لم يكن أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام يرون من الأعمال تركه كفر غير الصلاة )

لكن : هنا { وَمَنْ كَفَرَ } تحمل على { وَمَنْ كَفَرَ } لأنه لم يقيد

{ وَمَنْ كَفَرَ } أي بوجوبه ، أو { وَمَنْ كَفَرَ } على وجه الإطلاق بأي نوع من أنواع الكفر ، وهذا هو الأقرب

ومن ثم { وَمَنْ كَفَرَ } لأن بعضا من الناس قد يحصر الكفر في الشك في الاعتقاد كفر

يقول وهذا مذهب الجهيمة ومذهب المرجئة وهذا يروج له في مثل هذا العصر فيحصرون الكفر بما وقع من شك فقط في القلب

ولكن الكفر أنواع والردة عن دين الله يحصل بالقول ويحصل بالفعل

ويحصل بالاعتقاد ، فأنواع الكفر متعددة

{ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

فله الغنى المطلق والناس محتاجون إليه فطاعة العبد من حج أو غيره إنما تنفعه هو ، ولذلك قال عز وجل { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } فالعمل الصالح لك أنت فطاعة المطيع لا تنفع الله ، ومعصية العاصي لا تضر الله

ولذلك في الحديث القدسي في صيح مسلم في الحديث الطويل العظيم حقيقة هو عظيم وبينت ما فيه من فوائد في خطب كثيرة الله عز وجل يقول في الحديث القدسي ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني )

فالشاهد من هذا :

 قوله عز وجل { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

لأن الجميع محتاج إليه ، محتاج إليه في الدنيا محتاجون إليه في الدنيا وفي الآخرة وفي كل حال من أحوالنا

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ١٥ }